فصل: تفسير الآيات (1- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ثم الشطر الثاني من هذا التصور:
{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
فردية التبعة، فلا تنال نفس إلا ما كسبت؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت.. فردية التبعة، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة، وما قيد فيها له أو عليه. فلا يحيل على أحد، ولا ينتظر عون أحد.. ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها- حين يستيقنها القلب- أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق. وتقف كل إنسان مدافعاً عن حق الله فيه تجاه كل إغراء، وكل طغيان، وكل إضلال، وكل إفساد، فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها- وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه، وعبوديتها له وحده شعوراً وسلوكاً- فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال، أو تحت القهر والطغيان- إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان- فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئاً من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر.. ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفرداً وحيداً! ولا خوف من هذه الفردية- في هذا المقام- فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه، بوصفه طرفاً من حق الله في نفسه. فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه، وفي جهده ونصحه، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر.. وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فرداً فيتلقى هنالك جزاءه!
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها.. فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء:
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}..
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه، وإلى مدده وعونه؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه، والتجائهم إلى كنفه، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه.. كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح.
{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}.
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه. وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح. وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر، أو التعالي عن الطاعة والتسليم؛ أو الزيغ عن عمد وقصد.. ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته.. إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب.. وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
{ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}..
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم- كما علمهم ربهم في هذا القرآن- بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم. فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم. وفي آية الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيراً عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة. وحرم عليهم السبت أن يبتغوا فيه تجارة أو صيداً.. وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالاً كالتي حملها على الذين من قبلهم وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة: {إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة، هينة لينة، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة، وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم {ونيسرك لليسرى} على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه.. هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر. عبودية العبد للعبد. ممثلة في تشريع العبد للعبد. وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه.. فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده، وتلقي الشريعة منه وحده، وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد!
إن العبودية لله وحده- متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده- هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري. الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة. ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار.
ودعاء المؤمنين: {ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}: يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق.
{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}..
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام. فالمؤمنون لا ينوون نكولاً عن تكليف الله أياً كان. ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون. كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه.. وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم.. إنه طمع الصغير في رحمة الكبير. ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف. وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير.
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور:
{وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا}.
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان، ونيل الرضوان. فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء. ومن رحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران.. عن عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله.. قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته».
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن: عمل بكل ما في الوسع. وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز.. ورجاء- بعد ذلك- في الله لا ينقطع. وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح.
وأخيراً يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله، وهم يهمون بالجهاد في سبيله، لإحقاق الحق الذي أراده، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده. إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين:
{أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}..
إنه الختام الذي يلخص السورة. ويلخص العقيدة. ويلخص تصور المؤمنين، وحالهم مع ربهم في كل حين..

.سورة آل عمران:

.تفسير الآيات (1- 32):

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
إذا أخذنا بالروايات التي تقول: إن الآيات الأولى من هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها قد نزلت في مناسبة قدوم الوفد من نصارى نجران اليمن، ومناظرته للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه السلام، فإن هذا الدرس بجملته يكون داخلا في إطار هذه المناسبة. لولا أن هذه الروايات توقت مجيء ذلك الوفد بالسنة التاسعة للهجرة، وهي السنة المعروفة في السيرة باسم عام الوفود حيث كان الإسلام قد انتهى إلى درجة من القوة والشهرة في الجزيرة العربية كلها- وفيما وراءها كذلك- جعل الوفود من شتى بقاع الجزيرة تفد على النبي صلى الله عليه وسلم تخطب وده، أو تعرض التعاهد معه، أو تستجلي حقيقة أمره.
ونحن كما أشرنا فيما تقدم نحس أن الموضوع الذي تعالجه هذه الآيات، وطريقة علاجها له، كلاهما يرجح أن هذه الآيات نزلت مبكرة في السنوات الأولى للهجرة.. ومن ثم فنحن أميل إلى اعتبار ما ورد في هذه السورة من حجاج وجدل مع أهل الكتاب، ونفي للشبهات التي تضمنتها معتقداتهم المنحرفة، أو التي تعمدوا نثرها حول صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة عقيدة التوحيد الإسلامية، وكذلك ما اقتضاه كيد أهل الكتاب من تحذير للجماعة المسلمة وتثبيت.. نحن أميل إلى اعتبار هذا كله غير مقيد بحادث وفد نجران في السنة التاسعة؛ وأنه كانت هناك مناسبات أخرى مبكرة هي التي نزل فيها هذا القرآن من هذه السورة.
ومن ثم سنمضي في استعراض هذه النصوص بوصفها مواجهة لأهل الكتاب غير مقيد بهذا الحادث الخاص المتأخر في التاريخ.
على أن هذه النصوص- كما قلنا في التمهيد للسورة- تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم.. هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام- وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها- والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً.
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور. ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع- وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام.
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات. وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب! وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله.
وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه: فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك!
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام}..
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ما يذكر إلا أولو الألباب}.